September 7, 2025
المطران الياس عودة: الساكت عن الظلم ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "يفتح إنجيل اليوم أمامنا بابا واسعا لفهم سر محبة الله للعالم، ولإدراك عمق التدبير الإلهي الذي تم من أجل خلاصنا. في الكلمات القليلة التي سمعناها نجد خلاصة التدبير الخلاصي كله حيث يتقاطع النزول والصعود، الموت والحياة، الدينونة والرحمة، في شخص واحد هو يسوع المسيح ابن الله المتجسد. يبدأ النص بتأكيد على أنه لا أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل منها، أي المسيح نفسه. فالطريق إلى الآب لا يفتح إلا عبر الإبن، لأنه هو وحده «ابن البشر الذي هو في السماء» الذي يعرف الآب معرفة كاملة، ويحمل إلينا حياة السماء. يقول القديس كيرللس الإسكندري: «إن المسيح نزل ليلتحم بنا، ويصعد ليحملنا معه». هنا يكمن سر التجسد، فابن الله صار إنسانا ليدخل الإنسان في شركة الحياة الإلهية. هذه ليست حركة رمزية أو مجازية، بل فعل حقيقي من المحبة الإلهية التي لا تقاس".
أضاف: "يشبه المسيح رفعه على الصليب برفع موسى الحية النحاسية في البرية، حين تذمر الشعب وأصابتهم الحيات القاتلة، فأعطاهم الله علامة للخلاص، هي حية نحاسية معلقة، من نظر إليها بإيمان نجا. هذه العلامة، كما يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم، كانت «رمزا مسبقا للصلب»، حيث يعلق المسيح نفسه على خشبة ليبطل سم الحية القديمة، أي إبليس. كانت الحية أداة الموت منذ الفردوس، لكن المسيح جعل من صليبه دواء للحياة، محولا آلة الموت إلى ينبوع خلاص. إن النظر بإيمان إلى المسيح المرفوع يشفي من سم الخطيئة والموت، كما شفي العبرانيون من لدغات الحيات. «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». إنها خلاصة الإنجيل كله. محبة الله ليست محبة عابرة ولا عاطفة بشرية، بل محبة إلهية جوهرية، دفعت الآب ليرسل ابنه الوحيد إلى الألم والموت من أجلنا. المحبة الإلهية ليست شعورا، بل عمل خلاصي وبذل حقيقي وتضحية لا محدودة. لم يكتف الله بأن يعطينا شريعة أو أنبياء أو كلمات تعزية، بل أعطانا ابنه الوحيد لنمتلئ منه ونخلص به. أحب الله العالم وبذل ابنه الوحيد « لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». ليس الهدف من هذا البذل أن يدين الله العالم. كثيرون يظنون أن الله يترصد البشر ليدينهم على خطاياهم، لكن المسيح يوضح أن مقصده هو الخلاص لا الدينونة التي تحصل تلقائيا عندما يرفض الإنسان النور ويختار الظلمة. المبادرة الإلهية هي دائما للرحمة، كما يقول القديس إيريناوس: «مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي رؤية الله». الله لا يسر بهلاك الخطأة، بل يريدهم أن يتوبوا ويحيوا. هنا يظهر التباين بين فكر الله الساعي إلى الخلاص والمصالحة، وفكر العالم المادي الساعي وراء الكسب والتسلط والإنتقام والقصاص، وإلا كيف يفسر ازدراء القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية، والمواثيق الدولية، وقتل الأبرياء، وتجويع الأطفال، ومحو المدن والحضارات؟ والساكت عن الظلم والقتل والإزدراء بحياة خليقة الله ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة".
وتابع: "إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نجد أن العالم لا يزال بحاجة ماسة إلى الرحمة والمحبة والتواضع والتوبة، وإلى فهم هذه العبارة: «لم يرسل الله ابنه ليدين العالم، بل ليخلص به العالم». فإذا كان قصد الله الخالق خلاص العالم، كيف للإنسان المخلوق أن يدين العالم أو يدمره؟ من يقتل ومن يدفع للقتل أو يتسبب به وبهدم بيوت الناس والعبث بحياتهم والتلاعب بمصيرهم يسيئ إلى خليقة الله التي افتداها المسيح بدمه ليخلصها. في هذا الزمن الذي يضج بالعنف والظلم والإنقسامات والحروب، حيث تبنى المجتمعات على البطش والأنانية، نحن بحاجة إلى اكتشاف حقيقة أن الله لم يتركنا رغم خطايانا وزلاتنا، بل دخل تاريخنا، شاركنا آلامنا وحمل ضعفنا ليحول الظلمة إلى نور واليأس إلى رجاء. في كل مرة ننظر إلى الصليب، علينا أن نتذكر أنه ليس علامة دينونة، بل علامة حب أقوى من الموت. هذه المحبة ليست فكرة عامة أو عاطفة مبهمة، إنما هي دعوة شخصية لكل منا. المسيح مات على الصليب «لكي لا يهلك كل من يؤمن به». لكن الإيمان ليس قبولا عقليا، بل تسليم كامل للذات، ودخول في علاقة حية مع المسيح. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: «ما لم يتحد بالمسيح لم يشف». الإيمان الحقيقي هو أن نتحد بالمسيح في حياتنا وأفكارنا وأعمالنا، وأن نسمح لمحبته أن تعيد تشكيلنا، حتى نصبح نحن أيضا أيقونات حية للمسيح في هذا العالم. وإذا كان الله قد بذل ابنه الوحيد من أجلنا، فكم بالحري علينا نحن أن نبذل أنفسنا بعضنا لأجل بعض، لأن المحبة التي اختبرناها في المسيح ليست لتحفظ لأنفسنا، بل لتفيض على الآخرين. في عالمنا الذي يمجد الفردية والمصلحة الشخصية، يطلب منا الرب أن نكون شهودا لمحبة غير مشروطة، مستعدة للعطاء والبذل حتى النهاية. هنا تبرز مسؤولية الكنيسة اليوم في أن تظهر وجه المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، وأن تكون مكانا يشفى فيه الجرح البشري من سم الكراهية واليأس، وأن تعلن أن المحبة هي الكلمة الأخيرة في التاريخ، والفعل الأسمى".
وختم: "هذه الدعوة لا تعاش بسهولة، إذ تتطلب صراعا داخليا، وجهادا روحيا، وتواضعا وتخليا عن الأنا والكبرياء، وانفتاحا دائما على نعمة الله. لكننا لسنا وحدنا في هذا الطريق، لأن المسيح القائم حاضر معنا بروحه القدوس، يقوينا ويعضدنا وينير سبيلنا. فلنرفع أنظارنا نحو المسيح المصلوب، كما رفع العبرانيون عيونهم نحو الحية النحاسية، ناظرين إليه بإيمان حي، وواثقين بأنه وحده قادر أن يشفي جراحنا ويمنحنا حياة لا تزول. ولنسمح لمحبته أن تدخل قلوبنا وتحولها، لنصير نحن أيضا أدوات خلاص للآخرين، لا دينونة لهم. هكذا، نكون شهودا أمناء لخبر سار لا يشيخ: أن الله أحب العالم، وأحب كلا منا، حتى بذل ابنه الوحيد لنحيا فيه ونمجد اسمه القدوس إلى الأبد".