https://www.traditionrolex.com/8


ناوليني الصباح لباسم عبّاس: "إيقاع التشبث بالهويّة والأرض"


On 19 February, 2022
Published By Tony Ghantous
ناوليني الصباح لباسم عبّاس: "إيقاع التشبث بالهويّة والأرض"

يرى أدونيس في دراسته الأشهر "الثابت والمتحول"، أنّ الهويّة هي النظر إلى الأمام لا العودة إلى الوراء. ونُقل عن الأصمعيّ أنّ الشعرَ نكد بابه الشرّ إذا دخله الخير فسد، لكن ما نراه في مجموعة الشاعر #باسم عبّاس  الأخيرة "ناويليني الصباح"، الصادرة عن دار عالم الفكر والحركة الثقافية في لبنان-طبعة أولى 2019، يكسر هاتين المعادلتين، حيث كرّس بأسلوبيّته المبنيّة على الإيقاع والموسيقى الخارجية والإيجاز نقطة ارتكاز ثابتة جامعة للأرض، وهي الحاضر الأبديّ. وزاوج انطلاقًا من رؤيته الإجتماعية والسياسية الهجائيّة التي تعتلجُ  صدور عامة الناس بين الخير المبتغى والشر المرفوض... هي عمليّة سبك الشعر بلغة خضراء رنّانة ونطق سهل ممتنع للأفكار.

الأسلوبيّة وإيقاع الأرض

إنطلاقًا من عنوان المجموعة "ناوليني الصباح" الصادم بلكنته الآمرة الفاقعة التي تضمر رجاءً في فعل "ناويليني" وتمنيًا سرعان ما لطّفه عبّاس بمفردة الصباح التي تدل على الصفاء والهدوء والإنطلاقة الجديدة- وهذا ما سنفسره لاحقًا في القصيدة التي حملت هذا العنوان- لندخل إلى "بهو" المجموعة، فنجدُ أمامنا مجموعة من القصائد الّتي مزجت ما لم يتوقع مزجه قط إلّا من عبّاس، حيث الكثافة والقالب النثري التي توّجته سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر "قطعة مضغوطة كقطعة البلور...". المفارقة حصلت بالحفاظ على البنية العمودية القديمة برنينها الخارجيّ العروضيّ "هاتوا البلاد لكي أعيد بناءها/ شعبي سيلعن كل لصّ جوعه "(ص 8)، هي صرخة ضمن قرص غنائي رومنسيّ مدمج محاط بلغة مستغيثة تتوخى الحثّ على تطهير الأرض. إنّه العنف الذي ينجبُ السلام.

غير أنّ عبّاس قد أدخلنا فيما بعد في منجمه الشعريّ من خلال جملة قصائد طويلة، منها القصيدة الأساس التي حملت عنوان المجموعة "ناوليني الصباح"، والّتي أرادها عباس مطوّلة، كأنّه يريد أن يشارك القارىء في صناعة دلالات ترتبط بالخلاصات التي توصل إليها بعد اكثر من عقد من العمل في محترف الشعر والكتابة.

 عاد بنا عبّاس في هذا النّصّ إلى أمّهات الدواوين الشعريّة، حيث القصيدة التي تستهلّ بموضوعة وتفرز في متنها عدّة موضوعات "ناوليني الصباح كأس الليالي/ واسكبي ما يثير جنّ خيالي" (ص10). مطلع يحيلنا في ظاهر الأمر إلى قصيدة رومانسيّة تضجّ بالحنين والحنان وتكريم المرأة من خلال ضمير المخاطب المؤنث المقترن بفعل "ناوليني"، المسبّب لرسوخ الإلهام وولادة الخيال. لكن سرعان ما ينتقل الشاعر إلى الأرض والمقاومة وتصبح الأنثى رديفة الأرض وتوأمها "ناوليني نعل الشهيد فإني لشغوف/ بلثم هذه النعال" (ص 11)، ليصبح الخطاب الشعري مباشرًا وواضحًا بعيدًا من أي تعيين "فامنحي الأرض رعشة الابتهال" (ص 11).

الخطاب الشعري والخلفيّة الإجتماعيّة

لعلّ كلمة خطاب تثير الريبة والقلق، لا سيّما في الشعر، وفي الرواية كذلك، خصوصًا اذا كان الخطاب الروائي مخلخل زمنيًا، لكن  في هذه المجموعة كان الخطاب الشعريّ مرتبط بمناسبات جمّة، منها وفاة ومنها تكريم ومنها استلهام وآخر خطاب أب تجاه ابنه...

فيما يتعلق بالتكريم، لقد أظهر عبّاس من خلال قصيدته "أفق يليق بشمسه" أنّ النصّ المكتوب للراحل غازي قهوجي ليس بوارد إشباع مناسبة فقط بجرس موسيقيّ، إنّما هو مرور عامٌّ وشاملٌ على مدينة حملها المُكرَّم معه، لينطلق في مسيرته الإبداعيّة، وقد قالها من خلال هذه القصيدة التي عدت خطابًا يرتبط بمناسبة "أولم تكن صوت المحابر في دمٍ/ يحمي الصخور بموطني وترابي" (ص 105)، بالإضافة إلى تقديم صورة اجتماعية عن رجل حفر الفنّ في صدر مدينته وصدر الجنوب  "من رمّم الوجدان في صدر الزمان" (ص 104)،  "أولم تكن "غازي" الغمام مسافرًا "(ص 104)، وقد كسر عبّاس أي قاعدة رثائيّة محوّلاً الفرصة التكريميّة إلى مناسبة لطرد شبح الموت وإحياء الماضي في ذاكرة اجتماعية اختزنت أعمال من راحوا، وهذا ينسجم مع ما قاله نزار قباني في القصيدة الدمشقية التي حاكى فيها أقدم المدن في التاريخ العربي "لو فتحـتُم شراييني بمدينتكم/ سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا".  وتجلّى ذلك أكثر في قصيدته "حارس الحلم" حين ظهر الخطاب الجنوبيّ بحلّة منبريّة اجتماعيّة "حينما حلّ بالجنوب المصاب/ غربة عشت" (ص 110) للدّلالة على قيمة الولاء، وهي قيمة اجتماعية ترتبطُ بقيمةِ الشّهادة في المجتمع الجنوبيّ، وأقرب إلى قيمة التضحية.

اختزل عبّاس المجتمع في أشخاص قدّموا الكثير له تاركين بصمة فيه؛ إنّها لغة الانطلاقة إلى الأبد، اللّغة التي لخّصها في مفردة "الصباح" التي تمّمت عنوان المجموعة.

ولم يكن المجتمع عند عباس هو المقاومة بالفن فقط بل بالصوت، وصوت الذات تحديدًا وهو ما هيّأ انعطافة نحو السيوسيولوجيا من زاويتها الجماهيريّة. لم يتبع عباس في قصيدته "أحاسبكم" نبرة القائد المثقّف، بل المثقف القائد لصوت شعب يرفض الظلم  الذي يعتريه "أحاسبكم/ وأشرعتي رحيل البحر" (ص 62)، عاكسًا قبل ذلك روح الشعب وأصله "أحاسبكم ولي عينان/ من حبّ ومن حبر" (ص 53).

وهذا ما يعيدنا إلى دور المثقّف في تغيير المجتمع أو الحثّ على التغيير الجذريّ من خلال ثورة فكريّة تبدأ بالشعب. ولعل استخدام فعل "أحاسبكم" عند كل مقطع يشير إلى لوم الحكّام بالمبدأ، الّذين صاغوا خراب البلاد، لا سيّما القدس. ويشير إلى أنّ الشعب الذي لم يستطع الخروج عن نص قهره  "اعطوني قليلًا من الشهداء" (ص 65)، للدّلالة على ندرة من يقاوم بحق كلّ أشكال الظلم.

شهدت المجموعة محاولة ثوريّة وطنيّة انطلقت من المجتمع وفتحت أفقًا نحو المقاومة الحقّة.

لم تخلُ مجموعة باسم عباس الأخيرة من المناجاة والمحاكاة النفسيّة للذّات. هي فسحة للحديث مجددًا مع الأنا المشتّتة بين القدس والطبيعة والموت والمجتمع، اختفت فيها الرّغبات وحلّت محلّها الأمنيات.

ناوليني الصباح هي صرخة أخيرة لانتشال الكلّ من بقعة الليل الذي لا ينتهي...

المصدر: "النهار"

نبيل مملوك

المصدر: "النهار"






إقرأ أيضاً

ميلاد أبي رعد.. قصة مخرج لبناني ذاع صيته في مصر
منها فيلما تامر حسني وأحمد حلمي... بلاتوات التصوير في مصر تشهد منافسة سينمائية ساخنة

https://www.traditionrolex.com/8